بسم الله الرحمن الرحيم
إن السعيد كل السعادة من يعمل للدار الآخرة
، من يعمل لهادم اللذات ، ومفرق الجماعات ،
نعم إن السعيد حقا والمنيب صدقا من يعمل
للموت الذي كتبه الله ـ تعالى ـ على كل صغير
وكبير ، وكل عظيم وحقير0
فوا عجبا لأناس اقبلوا على الدنيا ، ونسوا
الآخرة ، أغراهم الشيطان ، فسول لهم ،
وأملى لهم ، ألا يتذكر هؤلاء أهل القبور ،
كيف محا التراب الوجوه الحسنة ، والأبدان
الناعمة
ألا يتذكر هؤلاء أحبابهم وأقاربهم الذين مضوا ،
واستقبلوا ما أمامهم من الأهوال والآلام 00
ألا يتذكر هؤلاء أن الموت إذا جاء لا يعرف
الصغير ولا الكبير ، ولا يعرف العظيم ولا الحقير
00
الكل راجع إلى الله ، فيا ليت شعري هل
ينادي نداء النعيم أو نداء الجحيم ؟00
لقد تفكرت في الدنيا فلم أجد واعظا اعظم
من تذكرت الموت 0
أخي في الله:
هل شاهدت المحتضر وهو في شدة سكراته
ونزعاته ؟ هل تأملت صورته بعد مماته 0
هل تذكرت انك سوف تصير إلى ما صار إليه ،
وستذوق ما ذاقه من الآلام والكربات وهو في
النزع الأخير ؟
دخل الحسن البصري ـ رحمه الله ـ على
مريض يعوده ،
فإذا به يجده في سكرات الموت ، وعند ذلك
اخذ ينظر إلى كربه والى شدة ما نزل به ،
ثم انصرف إلى بيته حزينا منكسرا
نعم لقد رجع إلى بيته بغــير اللون الذي
خــرج به ، فإذا أهله يقولون له :
يا إمام ، الطعام ـ يرحمك الله ـ فقال :
يا أهلاه ، عليكم بطعامكم وشرابكم ، فوالذي
نفسي بيده ، لقد لقيت مصرعا لا أزال اعمل
له حتى ألقاه ؟؟
ورحم الله الخليفة الراشد عمر بن عبدالعزيز
الذي ارجف بذكر الموت قلوب جيله رهبة ،
فنفضت رانها ، ثم انثنى ، فحرك إلى الشهادة
حنانها 0
ها هو ذكر أحد جلسائه الموت ، فيقول له :
اكثر ذكر الموت ، فانك لا تكون في ضيق من
أمرك ومعيشتك ،
فتذكر الموت إلا اتسع ذكر عليك ، ولا تكون
في سرور من أمرك ، وغبطة ، فتذكر الموت
إلا ضيق ذلك عليك 0
وهاهو التابعي الجليل محمد بن طعب
القرظي ـ رحمه الله ـ يحدث عن عمر بن
عبدالعزيز فيقول :
لما استخلف عمر بن عبدالعزيز ـ رحمه الله ـ
بعث إلي وأنا بالمدينة ، فقدمت عليه ،
فلما دخلت جعلت انظر إليه نظرا لا أصرف
بصري عنه ، متعجبا ،
فقال : يا ابن كعب : انك لتنظر إلي نظرا
ما كنت تنظره
قلت : متعجبــا
قـال : ما أعجبك ؟
قلت : يا أمير المؤمنين : أعجبني ما حال من
لونك ، ونحل من جسمك ، ونفى من شعرك 0
فقال : كيف لو رأيتني بعد ثلاثة ،
وقد دليت في حفرتي وسالت حدقتي على
وجنتي ، وسال منخري صديدا ودودا
عند ذلك شاع خبر عمر في الآفاق ،
حتى إذا أرسل إلى أعيان الكوفة : بادروه ،
وجلبوا شاعرهم أعشى همدان معهم ،
يعلن له قناعتهم وبراءتهم من أمل يطارده عمر
، قد عرفوا جده في إجلائه عن دار الإسلام 0
وينطلق الأعشى بين يدي عمر :
وبينما المرء أمسى ناعما جذلا ***** في
أهله معجبا بالعيش ذا أنق
غرا أتيح له من حينه عــرض ***** فما تلبث
حتى مات كالصــعق
ثمت أضحى ضحى من غب ثالثة *****
مقنعا غير ذي روح ولا رهــق
يبكي عليه ، وأدنوه لمظلمــــة ***** تعلى
جوانبهـا بالترب والفـلق
إنما تزود مما كان يجمعـــــه ***** إلا حنوطا
ومما واراه من خـرق
وغير نفحة أعواد تشب لـــــه ***** وقــل
ذلك من ازاد لمنطلــق
وعندئذ تنهمر دموع عمر بالبكاء ، وتختلط
بأصوات نشغاته ، ليتجاوز تراد صداها دهورا
تتعاقب ، يقود المربين المسلمين 0
وبعد ،
أخي المسلم :
تذكر اليوم الذي تنتقل فيه إلى أول منازل
الآخرة ، تذكر اليوم الذي تؤخذ فيه من فراشك
إلى لوح المغسل ، ليغسلك ، ثم يلبسك
الأكفان 0
فأخبرني ـ رحمني الله وإياك ـ ما الذي
ينفعك ؟
الملاهـي والشــهوات
المنصـب والكرســـي
المال الحـــرام
الشــهرة
لا والذي نفسي بيده ، إنما ينفعك العمل
الصالح الذي قدمته بين يدي الله مخلصا
منيبا منكسرا 0
وأما ما سوى ذلك فإلى الشقاء والبوار ،
أعاذني الله وإياك منه ، ورزقنا ـ جميعا ـ
الاستعداد للآخرة بقلوب المخلصين ،
وأعمال الصالحين ، وجنبنا الفتن ما ظهر منها
وما بطن ، انه ارحم الراحمين ، واكرم
الاكرمين 0
سبحان ربك رب العزة عما يصفون ، وسلام
على المرسلين ، والحمد لله رب العالمين 0