الموضوع خَلَط بين شخصيتين ، والأمر يحتاج إلى تحقيق وتدقيق .
فالذي تُنسب إليه النوادر والطرائف ليس هو التابعي .
وهذا الاسم اُطلِق على شخصين ، أحدهما بغدادي والآخر كوفي .
والبغدادي مُتأخِّر ، والكوفي مُتقدِّم .
أحدهما يُقال له دُجين ، والآخر ثابت .
قال الإمام البخاري في " التاريخ الكبير " : دُجين بن ثابت ، أبو الغصن اليربوعي ، بصري سمع منه مسلم وابن المبارك . قال علي : سُئل عبد الرحمن عن دُجين ، فقال : قال لنا دجين أول مرة حدّثني مولى لعمر بن عبد العزيز . لم يُدرك عمر بن الخطاب ، فتركه فما زالوا يُلقنونه حتى قال : أسلم مولى عمر بن الخطاب ! ولا يُعْتَدّ به ، كان يَتوهم ، ولا يُدْرَى ما هو !
وضعفّه ابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل " .
وروى ابن عدي في " الكامل " من طريق يوسف بن بحر قال : سمعت يحيى بن معين يقول : الدجين بن ثابت أبو الغصن صاحب حديث عمر " من كذب علي متعمدا " ، هو جُحا . وهذه الحكاية التي حَكى عن يحيى أن الدجين هذا هو جحا أخطأ عليه من حكاه عنه ؛ لأن يحيى أعلم بالرجال من أن يقول هذا ، والدجين بن ثابت إذا روى عنه بن المبارك ووكيع وعبد الصمد ومسلم بن إبراهيم وغيرهم ، وهؤلاء أعلم بالله من أن يَرووا عن جُحا ! والدجين أعرابي .
وتَرجَم ابن الجوزي في " الضعفاء والمتروكين " لِـ " دُجين بن ثابت ، أبي الغصن اليربوعي البصري " ، فقال : ويَتوَهَّم أحداث أصحابنا أنه جحا ، وليس كذلك .
وقد ترجم الإمام الذهبي في " سِير أعلام النبلاء " للمتقدِّم فقال :
أبو الغصن : هو الشيخ العالم الصادق المعمر ، بقية المشيخة ، أبو الغصن ، ثابت بن قيس الغفاري ، مولاهم المدني : عِداده في صِغار التابعين .
يَرْوِي عن : أنس بن مالك ، وسعيد بن المسيب ، ونافع بن جبير ، وخارجة بن زيد الفقيه ، وأبي سعيد كيسان المقبري ، والقدماء ، ورأى جابر بن عبد الله فيما اعترف به أبو حاتم.
حدث عنه : معن بن عيسى، وعبد الرحمن بن مهدي ، وبشر بن عمر الزهراني ، والقعنبي، وإسماعيل بن أبي أويس ، وجماعة.
وأخطأ من زعم أنه جحا صاحب تيك النوادر.
قال يحيى بن معين والنسائي : ليس به بأس.
وقال ابن معين أيضا في رواية عباس: هو صالح ، ليس حديثه بذاك ، وروى أحمد بن أبي خيثمة عن يحيى : ضعيف.
قال ابن حبان : هو من موالي عثمان بن عفان .
وكان قليل الحديث ، كثير الوهم فيما يَروي ، لا يُحْتَجّ بِخَبَره إذا لم يتابعه غيره عليه.
وقال ابن عدي : يُكتب حديثه .
قال ابن سعد : عاش ثابت بن قيس مئة وخمس سنين ، ومات سنة ثمان وستين ومئة . اهـ .
وترجم الذهبي لِثابت بن قيس هذا في " ميزان الاعتدال " ، وقال فيه : مات سنة ثمان وستين ومائة، وله مائة سنة .
وقال ابن عدى : هو ممن يُكتب حديثه .
وقال البخاري : رأى أنسا.
حَدَّث عنه عبد الرحمن بن مهدي . اهـ .
وترجم لآخر في " السِّيَر " ، فقال : جحا أبو الغصن ، صاحب النوادر ، دُجين بن ثابت ، اليربوعي ، البصري .
وقيل : هذا آخر .
رأى دجين أنسًا ، وروى عن أسلم ، وهشام بن عروة شيئا يسيرا .
وعنه : ابن المبارك ، ومسلم بن إبراهيم ، وأبو جابر محمد بن عبد الملك ، والأصعمي ، وبشر بن محمد السكري ، وأبو عمر الحوضي .
قال النسائي : ليس بثقة.
وقال ابن عدي : ما يرويه ليس بمحفوظ.
وروي عن ابن معين قال : دجين بن ثابت هو جحا .
وخطّأ ابن عدي مَن حَكى هذا عن يحيى ، وقال : لأنه أعلم بالرجال من أن يقول هذا ، والدُّجين إذا روى عنه ابن المبارك ، ووكيع ، وعبد الصمد ، فهؤلاء أعلم بالله من أن يَرْووا عن جحا.
وأما أحمد الشيرازي ، فَذَكر في " الألقاب " أنه جُحا ، ثم رَوى عن مكي بن إبراهيم قال : رأيت جحا الذي يقال فيه : مكذوب عليه ، وكان فتى ظريفا ، وكان له جيران مُخَنَّثُون يُمَازِحُونه ! ويَزيدون عليه .
قال عباد بن صهيب : حدثنا أبو الغصن جحا ، وما رأيت أعقل منه . قال كاتبه : لعله كان يمزح أيام الشبيبة ، فلما شاخ ، أقبل على شأنه ، وأخذ عنه المحدِّثون .
وقد قيل : إن جحا المتماجِن أصغر مِن دُجين ، لأن عثمان بن أبي شيبة لَحِق جحا ، فالله أعلم.
وكذلك وَهِم من قال : إن أبا الغصن ثابت بن قيس المدني ، هو جحا . اهـ .
وفي " الأعلام " للزركلي : كان أبو الغصن جحا البغدادي صاحب مُداعبة ومزاح ونوادر ، توفي في خلافة المهدي العباسي .
وقال في ترجمته : جحا الكوفي الفزاري ، أبو الغصن : صاحب النوادر .
يُضرب به المثل في الحمق والغفلة .
كانت أمه خادمة لام (أنس بن مالك) . اهـ .
فأنت ترى الإمام الذهبي يقول فيمن روى عنه ابن المبارك ، ووكيع ، وعبد الصمد ؛ يقول : فهؤلاء أعلم بالله من أن يَرْووا عن جحا .
وقال ابن حجر في " تعجيل المنفعة " : دجين بن ثابت اليربوعي أبو الغصن البصري ... وقال ابن مهدي : كان الدجين يقول : حدثني مولى عمر بن عبد العزيز ، فلم يزالوا به يُلَقِّنونه حتى قال : حدثني أسلم مولى عمر ! يعني أنه يَصغر عن إدراكه . اهـ .
وعلى كُلّ فإن الناس إذا رووا طرائف أو مُضحِكات عن جُحا ، لا يقصدون شخصا بِعينه يُلصقون به تلك الطرائف ؛ لأن أكثر الناس اليوم يتصوّرون أن " جحا " شخصية وهمية ! بِدليل أنهم يَروون عنه طرائف ومُضحِكات مُتعلِّقَة بالمخترعات الحديثة !
وإذا كان جحا الذي تُروى عنه تلك الطرائف وُصِف بما وُصِف به ، وكان يُضرب به المثل في الحمق والغفلة ؛ فنقل أخباره وطرائفه لا يدخل في ذِكر مساوئ الموتى .
والله تعالى أعلم .
المجيب الشيخ/ عبدالرحمن السحيم
عضو مكتب الدعوة والإرشاد...