مون فايس ..:: مشرفه دليل المطبخ والتغذيه ::..



تكملة حكايات تتعلق بالطيور وبداية حكاية الثعلب مع الذئب وابن آوى

الليلة التاسعة والسبعين بعد المئة


قالت شهرزاد :

بلغني أيها الملك السعيد أن العابد قسم قوته إلى نصفين وجعل نصفه لنفسه ونصفه لذلك الزوج الحمام ودعا العابد لهما بكثرة النسل فكثر نسلهما ولم يكن الحمام يأوي إلى غير الجبل الذي فيه العابد وكان السبب في اجتماع الحمام بالعابد كثرة تسبيح الحمام وقيل أن الحمام يقول في تسبيحه :
سبحان خالق الخلق وقاسم الرزق وباني السماء وباسط الأرض .
ولم يزل ذلك الزوج الحمام في أرغد عيش هو ونسله حتى مات ذلك العابد فتشتت شمل الحمام وتفرق في المدن والقرى والجبال .
وقيل أيضاً أنه كان في بعض الجبال رجل من الرعاة صاحب دين وعقل وعفة وكان له غنم يرعاها وينتفع بألبانها وأصوافها وكان ذلك الجبل الذي يأوي إليه الراعي كثير الأشجار والمرعى والسباع ولم يكن لتلك الوحوش قدرة على الراعي ولا على غنمه ولم يزل مقيماً في الجبل مطمئناً لا يهمه شيء من أمر الدنيا لسعادته وإقباله على عبادته فاتفق أنه مرض مرضاً شديداً ، فدخل كهفاً في الجبل وصارت الغنم تخرج بالنهار إلى مرعاها وتأوي بالليل إلى الكهف فأراد الله أن يمتحن ذلك الراعي ويختبره في طاعته وصبره فبعث إليه ملكاً فدخل عليه في صورة امرأة حسناء وجلس بين يديه ، فلما رأى الراعي تلك المرأة جالسة عنده اقشعر بدنه منها فقال لها :
أيتها المرأة ما الذي دعاك إلى المجيء هنا وليس لك حاجة معي ، ولا بيني وبينك ما يوجب دخولك علي .
فقالت له المرأة :
أيها الرجل الإنسان أما ترى حسني وجمالي وطيب رائحتي ? أما تعلم حاجة الرجال إلى النساء فما الذي يمنعك مني ?
فقال الراعي :
إن الذي تقولينه كرهته وجميع ما تبدينه زهدته لأنك خداعة غدارة لا عهد لك ولا وفاء ، فكم من قبيح تحت حسنك أخفيته ? وكم صالح فتنته وكانت عاقبته إلى الندامة والحزن فارجعي عني أيتها المصلحة نفسها لفساد غيرها .
ثم ألقى عباءته على وجهه حتى لا يرى وجهها واشتغل بذكر ربه .
فلما رأى الملك حسن طاعته ، خرج وعرج إلى السماء وكان بالقرب من الراعي قرية فيها رجل من الصالحين لم يعلم بمكانه فرأى في منامه كأن قائلاً يقول له :
بالقرب منك في مكان كذا وكذا رجل صالح فاذهب إليه وكن تحت طاعة أمره .
فلما أصبح الصباح توجه نحوه سائراً فلما اشتد عليه الحر انتهى إلى شجرة عندها عين جارية فجلس في ظل الشجرة ليستريح ، فبينما هو جالس وإذا بوحوش وطيور أتوا إلى تلك العين ليشربوا منها ، فلما رأوا العابد جالساً نفروا ورجعوا شاردين فقال العابد في نفسه :
أنا ما استرحت هنا إلا لتعب هذه الوحوش والطيور .
ثم قام وقال معاتباً لنفسه :
لقد أضر بهذه الحيوانات في هذا اليوم جلوسي في هذا المكان فما عذري عند خالقي وخالق هذه الطيور والوحوش فإني كنت سبباً لشرودهم عن مائهم ومرعاهم فواخجلتي من ربي يوم يقتص للشاة الجماء من الشاة القرفاء .
ثم أفاض من جفنه العبرات وأنشد هذه الأبيات :
أما والله لو علـم الأنـام ........ لم خلقوا لا غفلوا وناموا
فموت ثم بعث ثم حشـر ........ وتوبيخ وأهوال عظـام
ونحن إذا نهينا أوامرنـا ........ كاهل الكهف أكثرنا نيام
ثم بكى على جلوسه تحت الشجرة عند العين ومنعه الطيور والوحوش من شربها وولى هائماً على وجهه حتى أتى الراعي فدخل عنده وسلم عليه فرد عليه السلام وعانقه ثم قال له الراعي :
ما الذي أقدمك إلى هذا المكان الذي لم يدخله أحد من الناس علي ?
فقال العابد :
إني رأيت في منامي من يصف لي مكانك ويأمرني بالسير إليك والسلام عليك وقد أتيتك ممتثلاً لما أمرت به .
فقبله الراعي وطابت نفسه بصحبته وجلس معه في الجبل يعبدان الله تعالى في ذلك الغار وحسنت عبادتهما ، ولم يزالا في ذلك المكان يعبدان ربهما ويتقوتان من لحوم الغنم وألبانها متجردين عن المال والبنين إلى أن أتاهما اليقين وهذا آخر حديثهما .
قال الملك شهريار :
لقد زهدتيني يا شهرزاد في ملكي وندمتيني على ما فرط مني في قتل النساء والبنات فهل عندك أخر شيء من حديث الطيور ?
قالت شهرزاد :
نعم يا ملك الزمان .
زعموا أيها الملك أن طيراً طار وعلا إلى الجو ثم انقض على صخرة في وسط الماء وكان الماء جارياً ، فبينما الطائر واقف على الصخرة وإذا برمة إنسان جرها الماء حتى أسندها إلى الصخرة ووقفت تلك الجيفة في جانب الصخرة وارتفعت لانتفاخها فدنا الطير وتأملها فرآها رمة ابن آدم وظهر له فيها ضرب السيف وطعن الرماح فقال في نفسه :
إن هذا المقتول كان شريراً فاجتمع عليه جماعة وقتلوه واستراحوا منه ومن شره ، ولم يزل طير الماء يكثر التعجب من تلك الرمة حتى رأى نسوراً وعقباناً أحاطوا بتلك الجيفة من جميع جوانبها ، فلما رأى طير الماء هذا جزع جزعاً شديداً وقال :
لا صبر لي على الإقامة في هذا المكان .
ثم طار منه يفتش على موضع يأويه إلى حين نفاذ تلك الجيفة وزوال سباع الطير عنها ولم يزل طائراً حتى وجد نهراً في وسطه شجرة ، فنزل عليها كئيباً حزيناً على بعده عن وطنه وقال في نفسه :
لم تزل الأحزان تتبعني وكنت قد استرحت لما رأيت تلك الجيفة وفرحت بها فرحاً شديداً وقلت :
هذا رزق ساقه الله إلي فصار فرحي غماً وسروري حزناً وهماً وافترستها سباع الطير مني وحالت بينها وبيني فكيف أرجو أن أكون سالماً في هذه الدنيا وأطمئن إليها ، وقد قيل في المثل :
الدنيا دار من لا دار له يغتر بها من لا عقل له ويطمئن بماله وولده وقومه وعشيرته ولم يزل المغتر بها راكناً إليها يختال فوق الأرض حتى يصير تحتها ويجثوا عليه التراب أعز الناس عليه وأقربهم إليه وما للفتى خير من الصبر على مكارهها وقد فارقت مكاني ووطني وكنت كارهاً لفرقة أخواني وأصحابي .
فبينما هو في فكرته وإذا بذكر من السلاحف أقبل منحدر في الماء ودنا من طير الماء وسلم عليه وقال :
يا سيدي ما الذي أبعدك عن موضعك ?
قال الطائر :
حلول الأعداء فيه ولا صبر للعاقل على مجاورة عدوه ، وما أحسن قول بعض الشعراء :
إذا حل الثقيل بأرض قـوم ........ فما للساكنين سوى الرحيل
فقال له السلحف :
إذا كان الأمر كما وصفته والحال مثل ما ذكرته فأنا لا أزال بين يديك ولا أفارقك لأقضي حاجتك وأوفي بخدمتك ، فإنه يقال لا وحشة أشد من وحشة الغريب المنقطع عن أهله ووطنه ، وقد قيل إن فرقة الصالحين لا يعد لها شيء من المصائب ومما يسمى العاقل نفسه الإستئناس في الغربة والصبر على الزرية والكربة وأرجو أن تحمد صحبتي لك وأكون لك خادماً ومعيناً .
فلما سمع طير الماء مقالة السلحف قال له :
لقد صدقت في قولك ولعمري إني وجدت للفراق ألماً وهماً وهما مدة بعدي عن مكاني وفراقي لأخواني وخلاني لأن فيه الفراق عبرة لمن اعتبر وفكرة لمن تفكر وإذا لم يجد الفتى من يسليه من الأصحاب ينقطع عنه الخير ويثبت له الشر سرمداً ، وليس للعاقل إلا التسلي بالإخوان عن الهموم في جميع الأحوال وملازمة الصبر والتجلد فإنهما خصلتان محمودتان يعينان نوائب الدهر ويدفعان الفزع والجزع من كل أمر .
فقال له السلحف :
إياك والجزع فإنه يفسد عليك عيشك ويذهب مروءتك .
ومازالا يتحدثان مع بعضهما إلى أن قال طير الماء للسلحف :
أنا لم أزل أخشى نوائب الزمان وطوارق الحدثان .
فلما سمع السلحف مقالة طير الماء أقبل عليه وقبله بين عينيه وقال له :
لم تزل جماعة الطير تعرف مشورتك الخير فكيف تحمل الهم والضير .
ولم يسكن روع طير الماء حتى اطمأن ، ثم إن طير الماء طار إلى مكان الجيفة فلما وصل إليه لم ير من سباع الطير شيئاً ولا من تلك الجيفة إلا عظماً فرجع يخبر السلحف بزوال العدو من مكانه فلما وصل إلى السلحف أخبره بما رأى وقال :
إني أحب الرجوع إلى مكاني وأتملى بخلاني لأنه لا صبر للعاقل عن وطنه .
فذهب معه إلى ذلك المكان فلم يجد شيئاً مما يخاف منه فصار طير الماء قرير العين وأنشد هذين البيتين :
ولرب نازلة يضيق لها الفتى ........ ذرعاً وعند الله منها المخرج
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها ........ فرجت وكنت أظنها لا تفرج
ثم سكنا الجزيرة ، فبينما طير الماء في أمن وسرور وفرح وحبور إذ ساق إليه بازاً جائعاً فضربه بمخلبه ضربة فقتله ولم يغن عنه الحذر عند فراغ الأجل وسبب قتله غفلته عن التسبيح .
قيل انه كان يقول في تسبيحه :
سبحان ربنا فيما قدر ودبر ، سبحان ربنا فيما أغنى وأفقر .
هذا ما كان من حديث الطير .
فقال الملك شهريار :
لقد زدتيني بحكايتك مواعظ واعتبار فهل عند شيء من حكايات الوحوش ?
فقالت شهرزاد :
نعم يا ملك الزمان .
قال الملك شهريار :
أخبريني بما عندك .
قالت شهرزاد :
بلغني ايها الملك السعيد أن ثعلباً وذئباً ألفا وكراً فكانا يأويان إليه مع بعضهما فلبثا على ذلك مدة من الزمان وكان الذئب للثعلب قاهر ، فاتفق أن الثعلب أشار على الذئب بالرفق وترك الفساد وقال له :
إن دمت على عتوك ربما سلط الله عليك ابن آدم فإنه ذو حيل ومكر وخداع يصيد الطير من الجو والحوت من البحر ويقطع الجبال وينقلها وكل ذلك من حيله ، فعليك بالإنصاف وترك الشر والإعتساف فإنه أهنأ لطعامك .
فلم يقبل الذئب قوله وأغلظ له الرد وقال له :
لا علاقة لك بالكلام في عظيم الأمور وجسيمها .
ثم لطم الثعلب لطمة فخر منها مغشياً عليه .
فلما أفاق تبسم في وجه الذئب واعتذر إليه من الكلام الشين وأنشد هذين البيتين :
إذا كنت قد أذنبت ذنباً سالـفـاً ........ في حبكم وأتيت شيئاً منكـرا
أنا تائب عما جنيـت وعفوكـم ........ يسع المسيء إذا أتى مستغفرا
فقبل الذئب اعتذاره كف عنه أشراره وقال له :
لا تتكلم فيما لا يعنيك تسمع ما لا يرضيك .



وهنا أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح .

مون فايس ..:: مشرفه دليل المطبخ والتغذيه ::..



تكملة حكاية الثعلب مع الذئب وابن آوى

الليلة الثمانين بعد المئة


قالت شهرزاد :

بلغني أيها الملك السعيد أن الذئب قال للثعلب :
لا تتكلم فيما لا يعنيك حتى لا تسمع ما لا يرضيك .
فقال له الثعلب :
سمعاً وطاعة فأنا بمعزل عما يحدث فقد قال الحكيم :
لا تخبر عما لا تسأل عنه أو لا تجب إلى ما لا تدعى إليه وذر الذي لا يعنيك إلى ما لا يعنيك ولا تبذل النصيحة للأشرار فإنهم يجزونك عليها شراً .
فلما سمع الذئب كلام الثعلب تبسم في وجهه ولكنه أضمر له مكراً وقال :
لا بد أن أسعى في هلاك هذا الثعلب .
وأما الثعلب فإنه صبر على أذى الذئب وقال في نفسه :
إن البطر والافتراء يجلبان الهلاك ويوقعان في الارتباك ، فقد قيل :
من بطر خسر ، ومن جهل ندم ، ومن خاف سلم ، والإنصاف من شيم الأشراف والآداب أشرف الاكتساب ومن الرأي مداراة هذا الباغي ولابد له من مصرع .
ثم أن الثعلب قال للذئب :
إن الرب يعفو ويتوب على عبده إن اقترف الذنوب وأنا عبد ضعيف وقد ارتكبت في نصحك التعسيف ولو علمت بما حصل لي من لطمتك لعلمت أن الفيل لا يقوم به ولا يقدر عليه ولكني لا أشتكي من ألم هذه اللطمة بسبب ما حصل لي بها من السرور ، وقد قال الحكيم :
ضرب المؤدب أوله صعب شديد وآخره أحلى من العسل المصفى .
فقال الذئب :
غفرت ذنبك وأقلت عثرتك فكن من قوتي على حذر واعترف لي بالعبودية فقد علمت قهري لمن عاداني .
فسجد له الثعلب وقال له :
أطال الله عمرك ولا زلت قاهراً لمن عاداك .
ولم يزل الثعلب خائفاً من الذئب مصانعاً له ، ثم إن الثعلب ذهب إلى كرم يوماً فرأى في حائطه ثلمة فأنكرها وقال في نفسه :
إن هذه الثلمة لابد لها من سبب ، وقد قيل :
من رأى خرقاً في الأرض فلم يجتنبه ويتوق عن الإقدام عليه كان بنفسه مغروراً وللهلاك متعرضاً .
وقد اشتهر أن بعض الناس يعمل صورة الثعلب في الكرم ويقدم إليه العنب في الأطباق لأجل أن يرى ثعلباً آخر فيقدم إليه فيقع في الهلاك ، وإني أرى هذه الثلمة مكيدة ، وقد قيل :
إن الحذر نصف الشطارة ومن الحذر أن أبحث على هذه الثلمة وانظر لعلي أجد عندها أمر يؤدي إلى التلف ولا يحملني الطمع على أن ألقي نفسي في التهلكة .
ثم دنا منها وطاف بها وهو محاذر فرآها فإذا هي حفرة عظيمة قد حفرها صاحب الكرم ليصيد فيها الوحش الذي يفسد الكرم ورأى عليها غطاء رقيقاً فتأخر عنها وقال :
الحمد لله حيث حذرتها وأرجو أن يقع فيها عدوي الذئب الذي نغص عيشي ، فأستقل بالكرم وحدي وأعيش فيه آمناً .
ثم هز رأسه وضحك ضحكاً عالياً واطرب بالنغمات وأنشد هذه الأبيات :
ليتني أبصرت هـذا الوقت ........ في ذي الـبـئر ذئبـا
وسقاني المر غصباً ليتني ........ من بـعـد ذا أبـقـى
طالما قـد ساء قـلـبـي ........ ويقضي الذئب نحـبـا
ثـم يخـلو الكـرم منـه ........ وأرى لـي فيـه نهـبا
فلما فرغ من شعره انطلق مسرعاً حتى وصل إلى الذئب وقال :
إن الله سهل لك الأمور إلى الكرم بلا تعب وهذا من سعادتك فهنيئاً لك بما فتح الله عليك وسهل لك من تلك الغنيمة والرزق الواسع بلا مشقة .
فقال الذئب للثعلب :
وما الدليل على ما وصفت ?
قال الثعلب :
إني انتهيت إلى الكرم فوجدت صاحبه قد مات ودخلت البستان فرأيت الأثمار زاهية على الأشجار .
فلم يشك الذئب في قول الثعلب وأدركه الشر فقام حتى انتهى إلى الندامة وقد غره الطمع ووقف الثعلب متهافتاً كالميت وتمثل بهذا البيت :
أتطمع من ليلى بوصلي وإنما ........ تضر بأعناق الرجال المطامع
فلما انتهى الذئب إلى الثلمة قال له الثعلب :
ادخل إلى الكرم فقد كفيت مؤونة هدم حائط البستان وعلى الله تمام الإحسان .
فأقبل الذئب ماشياً يريد الدخول إلى الكرم فلما توسط غطاء الثلمة وقع فيها فاضطرب الثعلب اضطراباً شديداً من السرور والفرح وزوال الهم والترح ، ثم إنه تطلع في الحفرة فرأى الذئب يبكي ندماً وحزناً على نفسه فبكى الثعلب معه فرفع الذئب رأسه إلى الثعلب وقال له :
أمن رحمتك لي بكيت يا أبا الحصين ?
قال الثعلب :
لا والذي قذفك في هذه الحفرة إنما بكيت لطول عمرك الماضي وأسفاً على كونك لم تقع في هذه الثلمة قبل اليوم ولو وقعت قبل اجتماعي بك لكنت أرحت واسترحت ، ولكن أبقيت إلى أجلك المحتوم ووقتك المعلوم .
فقال له الذئب :
أيها الثعلب رح أيها المسيء في فعله لوالدتي وأخبرها بما حصل لي لعلها تحتال على خلاصي .
فقال له الثعلب :
لقد أوقعك في الهلاك شدة طمعك وكثرة حرصك حيث سقطت في حفرة لست منها بسالم ألم تعلم أيها الذئب الجاهل أن صاحب المثل يقول :
من لم يفكر في العواقب لم يأمن المعاطب ?
فقال الذئب للثعلب :
يا أبن الحصين إنما كنت تظهر محبتي وترغب في مودتي وتخاف من شدة قوتي فلا تحقد علي بما فعلته معك فمن قدر وعفا كان أجره على الله وقد قال الشاعر :
ازرع جميلاً ولو في غير موضعه ........ ما خاب قط جميل أينـمـا زرع
إن الجميل وإن طـال الزمـان به ........ فليس يحـصـده إلا الـذي زرع
فقال له الثعلب :
يا أجهل السباع وأحمق الوحوش في البقاع هل نسيت تجبرك وعتوك وتكبرك وأنت لم ترع حق المعاشرة ولم تنتصح بقول الشاعر :
لا تظلمن إذا ما كنت مقتدراً ........ إن الظلوم على حد من النقم
تنام عيناك والمظلوم منتبـه ........ يدعو عليك وعين الله لم تنم
فقال الذئب :
يا أبا الحصين لا تؤاخذني بسابق الذنوب فالعفو من الكرام مطلوب وصنع المعروف من حسن الذخائر وما أحسن قول الشاعر :
بادر بالخير إذا كنت مقتـدراً ........ فليس في كل حين أنت مقتدر
وما زال الذئب يتذلل للثعلب ويقول له :
لعلك تقدر على شيء تخلصني به من الهلاك .
فقال له الثعلب :
أيها الفظ الغليظ إني أشبهك في حسن علانيتك وقبح نيتك بالباز مع الحجل .
قال الذئب :
وما حديث الباز والحجل ?
قال الثعلب :
دخلت يوماً كرماً لآكل عنبه فبينما أنا فيه إذ رأيت بازاً انقض على حجل فلما اقتنصه انفلت منه الحجل ودخل وكره واختفى فيه فتبعه الباز وناداه :
أيها الجاهل إني رأيتك في البرية جائعاً فرحمتك ، والتقطت لك حباً وأمسكتك لتأكل فهربت مني ولم أعرف لهروبك وجهاً إلا الحرمان ، فاظهر وخذ ما أتيتك من الحب فكله هنيئاً مريئاً .
فلما سمع الحجل قول الباز صدقه وخرج إليه فانشب مخالبه فيه ومكنها منه فقال له الحجل :
أهذا الذي ذكرت انك أتيتني به من البرية وقلت لي هنيئاً مريئاً فكذبت علي جعل الله ما تأكله من لحمي في جوفك سماً قاتلاً .
فلما أكله وقع ريشه وسقطت قوته ومات لوقته ثم قال له الثعلب :
اعلم أيها الذئب أن من حفر حفرة لأخيه قليباً وقع فيها قريباً وأنت غدرت بي أولاً .
فقال الذئب للثعلب :
دعني من هذا المقال وضرب الأمثال ولا تذكر لي ما سلف مني من قبيح الفعال يكفيني ما أنا فيه من سوء الحال حيث وقعت في ورطة يرثي لي منها العدو فضلاً عن الصديق وانظر لي حيلة أتخلص بها وكن فيها غياثي وإن كان عليك ذلك مشقة فقد يتحمل الصديق لصديقه أشد النصب ويقاسي فيما فيه نجاته العطب وقد قيل :
إن الصديق الشفيق خير من الأخ الشقيق وإن تسببت في نجاتي لأجمعن لك من الآلة ما يكون لك عدة ، ثم لأعلمنك من الحيل الغريبة ما تفتح به الكروم الخصيبة وتجني الأشجار المثمرة فطب نفساً وقر عيناً .
فقال له الثعلب وهو يضحك :
ما أحسن ما قالته العلماء في كثير من الجهل مثلك .
قال الذئب :
وما قالت العلماء ?
قال الثعلب :
ذكر العلماء أن غليظ الجثة غليظ الطبع يكون بعيداً من العقل قريباً من الجهل لأن قولك أيها الماكر الأحمق قد يحتمل الصديق المشقة في تخليص صديقه صحيح كما ذكرت ولكن عرفتني بجهلك وقلة عقلك كيف أصادقك مع خيانتك أتحسبني لك صديقاً وأنا لك عدو شامت وهذا الكلام أشد من رشق السهام إن كنت تعقل وأما قولك أنك تعطيني من الآلات ما يكون عدة لي وتعلمني من الحيل وما أصل به إلى الكروم المخصبة وأجتني به الأشجار المثمرة فمالك أيها المخادع الغادر لا تعرف لك حيلة تتخلص بها من الهلاك فما أبعدك من المنفعة لنفسك وما أبعدني من القبول لنصيحتك فإن كان عندك حيل فتحيل لنفسك في الخلاص من هذا الأمر الذي أسأل الله أن يبعد خلاصك منه فانظر أيها الجاهل إن كان عندك حيلة فخلص نفسك بها من القتل قبل أن تبذل التعليم لغيرك ولكنك مثل إنسان حصل له مرض فاتاه رجل مريض بمثل مرضه ليداويه فقال له :
هل لك أن أداويك من مرضك ?
فقال له الرجل :
هلا بدأت بنفسك في المداواة .
فتركه وانصرف .
وأنت أيها الذئب كذلك فألزم مكانك واصبر على ما أصابك .
فلما سمع الذئب كلام الثعلب علم أن لا خير له عنده فبكى على نفسه وقال :
كنت في غفلة من أمري فإن خلصني الله من هذا الكرب لأتوبن عن تجبري على من هو أضعف مني ولألبس الصوف ولأصعدن الجبل ذاكراً الله تعالى خائفاً من عقابه واعتزل سائر الوحوش ولأطعمن المجاهدين والفقراء .
ثم بكى وانتحب فرق له قلب الثعلب وكان لما سمع تضرعه والكلام الذي يدل على توبته من العتو والتكبر أخذته الشفقة عليه فوثب من فرحته ، ووقف على شفير الحفرة ثم جلس على رجليه وأدلى ذنبه في الحفرة فعند ذلك قام الذئب ومد يده إلى ذنب الثعلب وجذبه إليه فصار في الحفرة معه ، ثم قال له الذئب :
أيها الثعلب القليل الرحمة كيف تشمت بي وقد كنت صاحبي وتحت قهري ووقعت معي في الحفرة وتعجلت لك العقوبة ، وقد قال الشاعر :
إذا ما الدهر جار على الناس ........ كلاكله أنـاخ بـآخـرينـا
فقل للشامتين بنـا أفـيقـوا ........ سيلقى الشامتون كما لقينـا
ثم قال الذئب للثعلب :
فلابد أن أعجل قتلك فبل أن ترى قتلي .
فقال الثعلب في نفسه :
إني وقعت مع هذا الجبار وهذا الحال يحتاج إلى المكر والخداع ، وقد قيل :
إن المرأة تصوغ حليها ليوم الزينة وفي المثل ما ادخرتك يا دمعتي إلا لشدتي وإن لم أتحيل في أمر هذا الوحش الظالم هلكت لا محالة ، وما أحسن قول الشاعر :
عش بالخداع فأنت في ........ زمن بنوه كأسد بـيشة
وأدر قناة المكر حتـى ........ تستدير رحى المعيشة
واجن الثمار فإن تفتك ........ فرض نفسك بالحشيشة
ثم إن الثعلب قال للذئب :
لا تعجل علي بالقتل فتندم أيها الوحش الصنديد صاحب القوة والبأس الشديد وإن تمهلت وأمعنت النظر فيما أحكيه لك ، عرفت قصدي الذي قصدته وإن عجلت بقتلي فلا فائدة لك فيه ، ونموت جميعنا هاهنا .
فقال له الذئب :
أيها المخادع الماكر وما الذي ترجوه من سلامتي وسلامتك حتى تسألني التمهل عليك فاخبرني بقصدك الذي قصدته ?
فقال له الثعلب :
أما قصدي الذي قصدته فما ينبغي أن تحسن عليه مجازاتي لأني سمعت ما وعدت من نفسك واعترافك بما سلف منك وتلهفك على ما فاتك من التوبة وفعل الخير وسمعت ما نذرته على نفسك من كف الأذى عن الأصحاب وغيرهم وتركك أكل العنب وسائر الفواكه ، ولزمك الخشوع وتقليم أظافرك وتكسير أنيابك وان تلبس الصوف وتقرب القربان لله تعالى إن نجاك مما أنت فيه فأخذتني الشفقة عليك مع إنني كنت على حق هلاكك حرصاً ، فلما سمعت منك توبتك وما نذرت على نفسك إن نجاك الله لزمني خلاصك مما أنت فيه فأدليت إليك ذنبي لكي تتعلق به وتنجو فلم تترك الحالة التي أنت عليها من العنف والشدة ولم تلتمس النجاة والسلامة لنفسك بالرفق بل جذبتني جذبة ظننت منها أن روحي قد خرجت فصرت أنا وأنت في منزلة الهلاك والموت وما ينجيني أنا وأنت إلا شيء إن قبلته مني خلصت أنا وأنت وبعد ذلك يجب عليك أن تفي بما نذرته وأكون رفيقك .
فقال له الذئب :
وما الذي أقبله منك ؟
قال له الثعلب :
تنهض قائماً وأعلو أنا فوق رأسك حتى أكون قريباً من ظاهر الأرض فإني حين أصير فوقها أخرج وآتيك بما تتعلق به وتخلص أنت بعد ذلك .
فقال له الذئب :
لست بقولك واثقاً لأن الحكماء قالوا :
من استعمل الثقة في موضع الحقد كان مخطئاً ، وقيل من وثق بغير ثقة كان مغوراً ، ومن جرب المجرب حلت به الندامة ، ومن لم يفرق بين الحالات فيعطي كل حالة حظها بل حمل الأشياء كلها على حالة واحدة قل حظه وكثرت مصائبه ، وما أحسن قول الشاعر :
لا يكـن ظـنـك لا سـيئاً إن ........ سوء الظن من أقوى الفطـن
ما رمى الإنسان فـي مهلـكة ........ مثل فعل الخير والظن الحسن
فقال الثعلب :
إن سوء الظن ليس محموداً في كل حال وحسن الظن من شيم الكرام وعاقبته النجاة من الأهوال وينبغي لك أيها الذئب أن تتحيل على النجاة مما أنت فيه ونسلم جميعاً خير من موتنا فارجع عن سوء الظن والحقد لأنك إن أحسنت الظن بي لا أخلو من أحد أمرين :
إما أن آتيك بما تتعلق به وتنجو مما أنت فيه ، وإما أن أغدر بك فأخلص وأودعك وهذا مما لا يمكن فإني لا آمن أن أبتلي بشيء مما ابتليت به فيكون ذلك عقوبة الغدر وقد قيل في الأمثال :
الوفاء مليح والغدر قبيح ، فينبغي أن تثق بي فإني لم أكن جاهلاً بحوادث الدهر فلا تؤخر حيلة خلاصنا فالأمر أضيق من أن نطيل فيه الكلام .
فقال الذئب :
إني مع قلة ثقتي بوفائك قد عرفت ما في خاطرك من انك أردت خلاصي لما عرفت توبتي فقلت في نفسي :
إن كان حقاً فيما زعم فإنه يستدرك ما أفسد وإن كان مبطلاً فجزاؤه على ربه ، وهاأنا أقبل منك ما أشرت به علي فإن غدرت بي كان الغدر سبباً لهلاكك .
ثم إن الذئب انتصب واقفاً وأخذ الثعلب على أكتافه حتى ساوى به ظاهر الأرض فوثب الثعلب عن أكتاف الذئب حتى صار على وجه الأرض ووقع مغشياً عليه .
فقال له الذئب :
يا خليلي لا تغفل عن أمري ولا تؤخر خلاصي .
فضحك الثعلب وقهقه وقال للذئب :
أيها المغرور لم يوقعني في يدك إلا المزح معك والسخرية بك وذلك أني لما سمعت توبتك استخفني الفرح فطربت ورقصت فتدلى ذنبي في الحفرة فجذبتني فوقعت عندك ثم أنقذني الله تعالى من يدك فما لي لا أكون عوناً على هلاكك وأنت من حزب الشيطان ، واعلم أنني رأيت البارحة في منامي أني أرقص في عرس فقصصت الرؤيا على معبر ، فقال لي :
إنك تقع في ورطة وتنجو منها فعلمت وقوعي في يدك ونجاتي هو تأويل رؤياي وأنت تعلم أيها المغرور الجاهل أني عدوك فكيف تطمع بقلة عقلك وجهلك في إنقاذي إياك مع ما سمعت من غلظ كلامك ? وكيف أسعى في نجاتك وقد قالت العلماء:
إن في موت الفاجر راحة الناس وتطهير للأرض ولولا مخافة أن أحتمل من الألم في الوفاء لك ما هو أعظم من ألم الغدر لتدبرت في خلاصك .
فلما سمع الذئب كلام الثعلب عض على كتفه ندماً .



وهنا أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح .

مون فايس ..:: مشرفه دليل المطبخ والتغذيه ::..


تكملة حكاية الثعلب مع الذئب وابن آوى وبداية بعض الحكايات عن الطيور والحيوانات

الليلة الحادية والثمانين بعد المئة


قالت شهرزاد :

بلغني أيها الملك السعيد أن الذئب لما سمع كلام الثعلب عض على كتفه ندماً ثم لين له في الكلام ولم يجد بداً من ذلك وقال له بلسان خافت :
إنكم معشر الثعالب من أحلى القوم لساناً وألطفها مزاحاً وهذا منك مزاح ولكن ما كل وقت يحسن اللعب والمزاح .
فقال الثعلب :
أيها الجاهل إن للمزاح حد لا يجاوزه صاحبه فلا تحسب أن الله يمكنك مني بعد أن أنقذني من يديك .
فقال له الذئب :
إنك لجدير أن ترغب في خلاصي لما بيننا من سابق المؤاخاة والصحبة وإن خلصتني لا بد أن أحسن مكافاتك .
فقال الثعلب :
قد قال الحكماء :
لا تؤاخ الجاهل الفاجر فإنه يشينك ولا يزينك ، ولا تؤاخ الكذاب فإنه إن بدا منك خير خفاه وإن بدا منك شر فشاه .
وقال الحكماء :
لكل شيء حيلة إلا الموت وقد يصلح كل شيء إلا فساد الجوهر وقد يدفع كل شيء إلا القدر وأما من جهة المكافأة التي زعمت أني أستحقها منك فإني أشبهك بالحية الهاربة من الحاوي إذ رآها رجل وهي مرعوبة فقال لها :
ما شأنك أيتها الحية ?
قالت :
هربت من الحاوي فإنه يطلبني فإن نجيتني منه وأخفيتني عندك لأحبسن مكافأتك وأصنع معك كل جميل .
فأخذها اغتناماً للأجر وطمعاً في المكافأة وأدخلها في جيبه فلما فات الحاوي ومضى إلى حال سبيله وزال عنها ما كانت تخافه قال لها الرجل :
أين المكافأة فقد أنقذتك مما تخافين وتحذرين ?
فقالت له الحية :
أخبرني في أي عضو أنهشك ?
وقد علمت أننا لا نتجاوز هذه المكافأة ثم نهشته نهشة مات منها وأنت أيها الأحمق شبهتك بتلك الحية مع ذلك الرجل أما سمعت قول الشاعر :
لا تأمنن فتى أسكنت مهجـتـه ........ غيظاً وتحسب أن الغيظ قد زالا
إن الأفاعي وإن لانت ملامسها ........ تبدي انعطافاً وتخفي السم قتالا
فقال له الذئب الفصيح صاحب الوجه المليح :
لا تجهل حالي وخوف الناس مني وقد علمت أني أهجم على الحصون وأقلع الكروم فافعل ما أمرتك به وقم بي قيام العبد بسيده .
فقال له الثعلب :
أيها الأحمق الجاهل المحال بالباطل إني تعجبت من حماقتك وصلابة وجهك فيما تأمرني به من خدمتك والقيام بين يديك حتى كأنني عبدك ولكن سوف ترى ما يحل بك من شرخ رأسك بالحجارة وكسر أنيابك بالغدارة .
ثم وقف الثعلب على تل مشرف على الكروم ولم يزل يصيح لأهل الكرم حتى بصروا به وأقبلوا عليه مسرعين فثبت لهم الثعلب حتى قربوا منه ومن الحفرة التي فيها الذئب ثم ولى الثعلب هارباً فنظر أصحاب الكرم في الحفرة فلما رأوا فيها الذئب وقعوا عليه بالحجارة الثقال ولم يزاوا يضربونه بالحجارة والخشب ويطعنونه بأسنة الرماح حتى قتلوه وانصرفوا فرجع الثعلب إلى تلك الحفرة ووقف على مقتل الذئب ، فرآه ميتاً فحرك رأسه من شدة الفرحات وأنشد هذه الأبيات :
أودى الزمان بنفس الذئب فاختطفت ........ بعداً وسحقاً لها من مهجة تلفـت
فكم سعيت أبا سرحان في تلـفـي ........ فاليوم حلت بك الآفات والتهبـت
وقعت في حفرة ما حلـهـا أحـد ........ إلا وفيها رياح الموت قد عصفت
ثم إن الثعلب أقام بالكرم وحده مطمئناً لا يخاف ضرراً وهذا ما كان من حديث الثعلب .
ومما يحكى أن فأرة وبنت عرس كانتا ينزلان منزلاً لبعض الناس وكان ذلك الرجل فقيراً ، وقد مرض بعد أصدقائه فوصف له الطبيب السمسم المقشور ، فأعطاه لزوجته وأمرها بإصلاحه فقشرته تلك المرأة وأصلحته ، فلما عاينت بنت عرس السمسم أتت إليه ولم تزل تنقل من ذلك السمسم إلى حجرها طول يومه حتى نقلت أكثره وجاءت المرأة فرأت نقصان السمسم واضحاً فجلست ترصد من تأتي إليه حتى تعل سبب نقصانه فنزلت بنت عرس لتنقل منها على عادتها فرأت المرأة جالسة فعلمت أنها ترصدها فقالت في نفسها :
إن لهذا الفعل عواقب ذميمة وإني أخشى من تلك المرأة أن تكون لي بالمرصاد ومن لم ينظر في العواقب ما الدهر له بصاحب ، ولابد لي أن أعمل حسناً أظهر به براءتي من جميع ما عملته من القبيح .
فجعلت تنقل من ذلك السمسم الذي في حجرها فرأتها المرأة وهي تفعل ذلك ، فقالت في نفسها :
ما هذا سبب نقصه لأنها تأتي به من حجر الذي اختلسه وتضعه على بعضه وقد أحسنت إلينا في رد السمسم وما جزاء من أحسن إلا أن يحسن إليه وليست هذه آفة في السمسم ولكن لا أزال أرصدها حتى يقع واعلم من هو .
ففهمت بنت عرس ما خطر ببال تلك المرأة فانطلق إلى الفأرة فقالت لها :
يا أختي إنه لا خير فيمن لا يرعى المجاورة ولا يثبت على المودة .
فقالت الفأرة :
نعم يا خليلتي وأنعم بك وبجوارك فما سبب هذا الكلام ?
فقالت بنت عرس :
إن رب البيت أتى بسمسم فأكل منه هو وعياله وشبعوا واستغنوا عنه وتركوه وقد أخذ منه كل ذي روح ، فلو أخذت أنت الأخرى كنت أحق به ممن يأخذ منه .
فأعجب الفأرة ذلك ورقصت ولعبت ذنبها وغرها الطمع في السمسم فقامت من وقتها وخرجت من بيتها فرأت السمسم مقشوراً يلمع من البياض والمرأة جالسة ترصده فلم تفكر الفأرة في عاقبة الأمر وكانت المرأة قد استعدت بهراوة فلم تتمالك الفأرة حتى دخلت في السمسم وعانت فيه وصارت تأكل منه فضربتها المرأة بتلك الهراوة فشجت رأسها وكان الطمع سبب هلاكها وغفلتها عن عواقب الأمور .
فقال الملك شهريار :
يا شهرزاد والله إن هذه حكاية مليحة فهل عندك حديث في حسن الصداقة والمحافظة عليها عند الشدة والتخلص من الهلكة ؟
قالت شهرزاد :
نعم يا ملك الزمان .
بلغني أن غراباً وسنوراً كانا متآخين فبينما هما تحت الشجرة على تلك الحالة إذ رأيا نمراً مقبلاً على تلك الشجرة التي كانا تحتها ولم يعلما به حتى صار قريباً من الشجرة فطار الغراب إلى أعلى الشجرة وبقي السنور متحيراً فقال للغراب :
يا خليلي هل عندك حيلة في خلاصي كما هو الرجاء فيك ?
فقال الغراب :
إنما تلتمس الأخوان عند الحاجة إليهم في الحيلة عند نزول المكروه بهم ، وما أحسن قول الشاعر :
إن صديق الحق من كان معك ........ ومن يضر نفسه لا ينفعـك
ومن إذا ريب الزمان صدعك ........ شتت فيه شمله ليجمـعـك
وكان قريباً من الشجرة رعاة معهم كلاب فذهب الغراب حتى ضرب بجناحه وجه الأرض ونعق وصاح ، ثم تقدم إليهم وضرب بجناحه وجه بعض الكلاب وارتفع قليلاَ فتبعته الكلاب وسارت في أثره ورفع الراعي رأسه فرأى طائراً يطير قريباً من الأرض ويقع فتبعه وصار الغراب لا يطير إلا بقدر التخلص من الكلاب ويطمعها في أن تفترسه ، ثم ارتفع قليلاً وتبعته الكلاب حتى انتهى إلى الشجرة التي تحتها النمر ، فلما رأت الكلاب النمر وثبت عليه فولى هارباً وكان يظن أنه يأكل السنور فنجا منه ذلك السنور بحيلة الغراب صاحبه وقد أخبرتك بهذا أيها الملك لتعلم أن مودة أخوان الصفا تنجي من الهلكات .
وحكي أن ثعلباً سكن في بيت في الجبل وكان كلما ولد ولداً واشتد ولده أكله من الجوع وإن لم يأكل ولده يضربه الجوع ، وكان يأوي إلى ذروة ذلك الجبل غراب فقال الثعلب في نفسه :
أريد أن أعقد بيني وبين هذا الغراب مودة واجعله لي مؤنساً على الوحدة معاوناً على طلب الرزق لأنه يقدر من ذلك على ما لا أقدر عليه .
فدنا الثعلب من الغراب حتى صار قريباً منه بحيث يسمع كلامه فسلم عليه ثم قال له :
يا جاري إن للجار على الجار حقين :
حق الجيرة وحق الدين واعلم بأنك جاري ولك علي حق يجب قضاؤه وخصوصاً مع طول المجاورة ، على أن في صدري وديعة من محبتك دعتني إلى ملاطفتك وبعثتني على التماس أخوتك فما عندك من الجواب ?
فقال الغراب :
اعلم إن خير القول أصدقه وربما تتحدث بلسانك بما ليس في قلبك وأخشى أن تكون أخوتك باللسان ظاهراً وعداوتك في القلب لأنك آكل وأنا مأكول فوجب علينا التباين في المحبة ولا يمكن مواصلتنا ، فما الذي دعاك إلى طلب ما لا تدرك وإرادة ما لا يكون وأنت من جنس الوحوش وأنا من جنس الطيور وهذه الأخوة لا تصح .
فقال له الثعلب :
إن من موضع الإخلاء فأحسن الاختيار فيما يختاره منهم ربما يصل إلى بعض منافع الأخوان وقد اخترت قربك واخترت الأنس بك ليكون بعضنا عوناً لبعض على أغراضنا وتعقب مودتنا ، وعندي حكايات في حسن الصداقة فإن أردت أن أحكيها حكيتها لك .
فقال الغراب :
أذنت لك أن تبثها فحدثني بها حتى أعرف فالمراد منها .
فقال له الثعلب :
اسمع يا خليلي يحكى عن برغوت وفأرة وما يستدل به على ما ذكرته لك .
فقال الغراب :
وكيف كان ذلك ؟
فقال الثعلب :
زعموا أن فارة في بيت رجل من التجار كثير المال فآوى البرغوت ليلة إلى فراش ذلك التاجر فرأى بدناً ناعماً وكان البرغوت عطشاناً فشرب من دمه ، ووجد التاجر من البرغوت ألماً فاستيقظ من النوم واستوى قاعداً ونادى أتباعه فأسرعوا إليه وشمروا عن أيديهم يطوفون على البرغوت ، فلما أحس البرغوت بالطلب ولى هارباً فصادف حجر الفأرة فدخله ، فلما رأته الفأرة قالت له :
ما الذي أدخلك علي ولست من جوهري ولا من جنسي ولست بآمن من الغلظة عليك ولا مضاررتك ؟
فقال لها البرغوت :
إني هربت إلى منزلك وفزت بنفسي من القتل وأتيت مستجيراً بك ولا طمع لي في بيتك ولا يلحقك مني شر يدعوك إلى الخروج من منزلك وإني أرجو أن أكافئك على إحسانك بكل جميل وسوف تحمدين عاقبة ما أقول لك .
فلما سمعت الفأرة كلام البرغوت .



وهنا أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح .

مون فايس ..:: مشرفه دليل المطبخ والتغذيه ::..



تكملة بعض الحكايات عن الطيور والحيوانات

الليلة الثانية والثمانين بعد المئة


قالت شهرزاد :

بلغني أيها الملك السعيد أن الفأرة لما سمعت كلام البرغوت قالت :
إذا كان الكلام على ما أخبرت فاطمئن هنا وما عليك بأس ولا تجد إلا ما يسرك ولا يصيبك إلا ما يصيبني وقد بذلت لك مودتي ولا تندم على ما فاتك من دم التاجر ولا تأسف على قوتك منه وارض بما تيسر لك من العيش فإن ذلك أسلم لك وقد سمعت أيها البرغوت بعض الوعاظ ينشد هذه الأبيات :
سلكت طريق القناعة والإنفراد ........ قضيت دهري بماذا اتـفـق
بكسرة خبـز وشـربة مـاء ........ وملح جريش وثوب خـلـق
فإن يسر الله لي عـيشـتـي ........ وإلا قنعت بـمـا قـد رزق
فلما سمع البرغوت كلام الفأرة ، قال :
يا أختي قد سمعت وصيتك وانقدت إلى طاعتك ولا قوة لي على مخالفتك إلى أن ينقضي العمر بتلك النية .
فقالت له الفأرة :
كفى بصدق المودة في صلاح النية .
ثم انعقد الود بينهما وكان البرغوت بعد ذلك يأوي إلى فراش التاجر ولا يتحاور بلغته ويأوي بالليل مع الفأرة في مسكنها فاتفق أن التاجر جاء ليلة إلى منزله بدنانير كثيرة فجعل يقلبها ، فلما سمعت الفأرة صوت الدنانير أطلعت رأسها من جحرها وجعلت تنظر إليها حتى وضعها التاجر تحت الوسادة ونام فقالت الفأرة للبرغوت :
أما ترى الفرصة والحظ العظيم ، فهل عندك حيلة إلى بلوغ الغرض من تلك الدنانير ؟
فقال لها البرغوت :
قد التزمت لك بإخراجه من البيت .
ثم انطلق البرغوت إلى فراش التاجر ولدغه لدغة قوية لم يكن جرى للتاجر مثلها ، ثم تنحى البرغوت إلى موضع يأمن فيه على نفسه من التاجر فانتبه التاجر يفتش على البرغوت فلم يجد شيئاً فرقد على جنبه الآخر فلدغه البرغوت لدغة أشد من الأولى فقلق التاجر وفارق وخرج إلى مصطبة داره فنام هناك ولم ينتبه إلى الصباح ثم إن الفأرة أقبلت على الدنانير حتى لم تترك منها شيئاً .
فلما أصبح الصباح صار التاجر يتهم الناس ويظن الظنون .
ثم قال الثعلب للغراب :
واعلم أني لم أقل لك هذا الكلام أيها الغراب البصير العاقل الخبير إلا ليصل إليك جزاء إحسانك إلي كما وصل للفأرة جزاء إحسانها إلى البرغوت فانظر كيف جازاها أحسن المجازاة وكافأها أحسن المكافأة .
فقال الغراب :
إن شاء المحسن يحسن أو لا يحسن وليس الإحسان واجباً لمن التمس صلة بقطيعة وإن أحسنت إليك مع كونك عدوي أكون أتسبب في قطيعة نفسي ، وأنت أيها الثعلب ذو مكر وخداع ومن شيمتك المكر والخديعة لا تؤمن على عهد ولا أمان لك ، وقد بلغني عن قريب أنك غدرت بصاحبك الذئب ومكرت به حتى أهلكته بغدرك وحيلتك وفعلت به هذه الأمور مع أنه من جنسك وقد صحبته مدة مديدة فما أبقيت عليه فكيف أثق منك بنصيحة وإذا كان هذا فعلك مع صاحبك الذي من جنسك فكيف فعلك مع عدوك الذي من غير جنسك ؟ وما مثالك معي إلا مثال الصقر مع ضواري الطير .
فقال الثعلب :
وما حكاية الصقر مع ضواري الطير ؟
فقال الغراب :
زعموا أن صقراً كان جباراً عنيداً .



وهنا أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح .

مون فايس ..:: مشرفه دليل المطبخ والتغذيه ::..



تكملة بعض الحكايات عن الطيور والحيوانات

الليلة الثالثة والثمانين بعد المئة


قالت شهرزاد :

بلغني أيها الملك السعيد أن الغراب قال :
زعموا أن صقراً كان جباراً عنيداً أيام شبيبته وكان سباع البر وسباع الطير تفزع منه ولا يسلم من شره أحد وله حكايات كثيرة في ظلمه وتجبره وكان دأب هذا الصقر الأذى لسائر الطيور فلما مرت عليه السنون ضعف وجاع واشتد جهده بعد فقد قوته فأجمع رأيه على أن يأتي مجمع الطير فيأكل ما يفضل منها ، فعند ذلك صار قوته بالحيلة بعد القوة والشدة .
وأنت كذلك أيها الثعلب إن عدمت قوتك ما عدمت خداعك ولست أشك في أن ما تطلبه من صحبتي حيلة على قوتك فلا كنت ممن يضع يده في يدك لأن الله أعطاني قوة في جناحي وحذراً في نفسي وبصراً في عيني وأعلم أن من تشبه بأقوى منه تعب وربما هلك .
هذا ما عندي الكلام واذهب عش بسلام .
فلما يئس الثعلب من مصادقة الغراب رجع من حزنه يئن وقرع للندامة سناً على سن .
فلما سمع الغراب بكاءه وأنينه ورأى كآبته وحزنه قال :
أيها الثعلب ما نابك حتى قرعت نابك ؟
قال له الثعلب :
إنما قرعت سني لأني رأيتك أخدع مني .
ثم ولى هارباً ورجع إلى جحره طالباً .
وهذا ما كان من حديثهما أيها الملك .
فقال الملك شهريار :
يا شهرزاد ما أحسن هذه الحكايات هل عندك شيء مثلها من الخرافات ؟
قالت شهرزاد :
يحكى أن قنفذاً مسكناً بجانب نخلة وكان الورشان هو وزوجته فلما اتخذا عشاً في النخلة وعاشا فوقها عيشاً رغيداً فقال القنفذ في نفسه :
إن الورشان يأكل من ثمر النخل وأنا أجد إلى ذلك سبيلاً ولكن لابد من استعمال الحيلة .
ثم حفر في أسفل النخلة بيتاً واتخذه سكناً له ولزوجته وإلى جانبه مسجداً وانفرد فيه وأظهر النسك والعبادة ، وترك الدنيا وكان الورشان متعبداً مصلياً فرق له من شدة زهده وقال :
كم سنة وأنت هكذا ؟
قال القنفذ :
مدة ثلاثين سنة .
قال الورشان :
ما طعامك ؟
قال القنفذ :
ما يسقط من النخلة .
قال الورشان :
ما لباسك ؟
قال القنفذ :
شوك أنتفع بخشونته .
قال الورشان :
وكيف اخترت مكانك هذا على غيره ؟
قال القنفذ :
اخترته على غير طريق لأجل أن أرشد الضال وأعلم الجاهل .
فقال له الورشان :
كنت أظهر على انك على غير هذه الحالة ولكنني رغبت فيما عندك .
فقال القنفذ :
إني أخشى أن يكون قولك ضد فعلك فتكون كالزراع الذي جاء وقت الزرع قصر في بذره وقال :
إني أخشى أن يكون أوان الزرع قد فات فأكون قد أضعت المال بسرعة البذر .
فلما جاء وقت الحصاد ورأى الناس يحصدون ندم على ما فاته من تقصيره ومن تخلفه ومات أسفاً .
فقال الورشان للقنفذ :
وماذا أصنع حتى أتخلص من علائق الدنيا وأنقطع إلى عبادة ربي ؟
قال له القنفذ :
خذ في الإستعداد للميعاد والقناعة بالكفاية في الزاد .
فقال الورشان :
كيف لي بذلك وأنا طائر لا أستطيع أن أتجاوز النخلة التي فيها قوتي ؟ ولو استطعت ذلك ما عرفت موضعاً أستقر فيه .
فقال القنفذ :
يمكنك أن تنثر من ثمر النخلة ما يكفيك مؤونة عام أنت وزوجتك وتسكن قي وكر تحت النخلة لالتماس حسن إرشادك ، ثم مل إلى ما نثرته من الثمر فانقله جميعاً وادخره قوتاً للعدم وإذا فرغت الثمار وطال عليك المطال سر إلى كفاف العيش .
فقال الورشان :
جزاك الله خيراً حيث ذكرتني بالميعاد وهديتني إلى الرشاد .
ثم تعب الورشان هو وزوجته في طرح الثمر حتى لم يبق في النخلة شيء فوجد القنفذ ما يأكل وفرح به وملأ مسكنه من الثمر وادخره لقوته وقال في نفسه :
إن الورشان هو وزوجته إذا احتاجا إلى مؤونتهما طلباها مني وطمعا فيما عندي وركنا إلى تزهدي وورعي .
فلما رأى الورشان منه الخديعة لائحة قال له :
أين الليلة من البارحة فما تعلم أن للمظلومين ناصراً فإياك والمكر والخديعة ، لئلا يصيبك ما أصاب الخداعين الذين مكروا بالتاجر .
فقال القنفذ :
وكيف ذلك ؟
قال الورشان :
بلغني أن تاجراً من مدينة يقال لها سنده كان ذا مال واسع فشد جمالاً وجهز متاعاً وخرج به إلى بعض المدن ليبيعه فيها فتبعه رجلان من المكرة وحملا شيئاً من مال ومتاع وأظهرا للتاجر أنهما من التجار وساروا معه فلما نزلا أول منزل اتفقا على المكر به وأخذ ما معه .
ثم إن كل واحد منهما أضمر المكر لصاحبه وقال في نفسه :
لو مكرت بصاحبي بعد مكرنا بالتاجر لصفا لي الوقت وأخذت جميع المال .
ثم أضمرا لبعضهما نية فاسدة وأخذ كل منهما طعاماً وجعل فيه سماً وقربه لصاحبه فقتلا بعضهما وكانا يجلسان مع التاجر ويحدثانه فلما أبطأوا عليه فتش عليهما ليعرف خبرهما فوجدهما ميتين فعلم أنهم كانا محتالين وأرادا المكر به فعاد عليهما مكرهما وسلم التاجر والمال معه .
فقال الملك شهريار :
نبهتيني يا شهرزاد على شيء كنت غافلاً عنه أفلا تزيديني من هذه الأمور ؟
قالت شهرزاد :
بلغني أيها الملك السعيد أن رجلاً كان عنده قرد وكان ذلك الرجل سارقاً لا يدخل سوقاً من أسواق المدينة التي هو فيها إلا ويرجع بكسب عظيم فاتفق أن رجلاً حمل أثواباً ليبيعها فذهب بها إلى السوق وصار ينادي عليها فلا يسومها أحد وكان لا يعرضها على أحد إلا امتنع من شرائها فاتفق أن السارق الذي معه القرد رأى الشخص الذي معه الثياب المقطعة وكان وضعها في بقجة وجلس يستريح من التعب فلعب القرد أمامه حتى أشغله بالفرجة عليه واختلس منه تلك البقجة ، ثم أخذ القرد وذهب إلى السوق مكان خال وفتح البقجة فرأى تلك الثياب المقطعة فوضعها في بقجة نفيسة وذهب بها إلى سوق آخر وعرض البقجة للبيع بما فيها واشترط أن لا تفتح ورغب الناس فيها لقلة الثمن فرآها رجل وأعجبه نفاستها فاشتراها وذهب بها إلى زوجته ، فلما رأت ذلك امرأته قالت :
ما هذا ؟
قال الرجل :
متاع نفيس اشتريته بدون القيمة لأبيعه واخذ فائدته .
فقالت له زوجته :
أيها المغبون هذا المتاع بأقل من قيمته إلا إذا كان مسروقاً ? أما تعلم أن من اشترى شيئاً ولم يعاينه كان مخطئاً وكان مثله مثل الحائك .
فقال لها :
وكيف كان ذلك ؟
فقالت له :
بلغني أن حائكاً كان في بعض القرى وكان يعمل فلا ينال القوت إلا بجهد ، فاتفق أن رجلاً من الأغنياء كان ساكناً قريباً منه قد أولم وليمة ودعا الناس إليها فحضر الحائك فرأى الناس الذين عليهم الثياب الناعمة يقدم لهم الأطعمة الفاخرة وصاحب المنزل يعظمهم لما يرى من حسن زيهم ، فقال في نفسه :
لو بدلت تلك الصنعة بصنعة أخف مؤونة منها وأكثر أجرة لجمعت مالاً كثيراً واشتريت ثياباً فاخرة وارتفع شأني وعظمت في أعين الناس .
ثم نظر إلى بعض ملاعب الحاضرين في الوليمة وقد صعد سوراً شاهقاً ثم رمى بنفسه إلى الأرض ونهض قائماً فقال في نفسه :
لابد أن أعمل مثل عمل هذا ولا أعجز عنه .
ثم صعد إلى السور ورمى نفسه ، فلما وصل إلى الأرض اندقت رقبته فمات وإنما أخبرتك بذلك لئلا يتمكن منك الشر ، فترغب فيما ليس من شانك .
فقال لها زوجها :
ما كل عالم يسلم بعلمه ولا كل جاهل يعطب بجهله وقد رأيت الحاوي الخبير بالأفاعي العالم بها وربما نهشته الحية فقتلته وقد يظهر بها الذي لا معرفة له بها ولا علم عنده بأحواله .
ثم خالف زوجته واشترى المتاع وأخذ في تلك العادة فصار يشتري من السارقين بدون القيمة إلى أن وقع في تهمة فهلك فيها .
وكان في زمنه عصفور يأتي كل يوم إلى ملك من ملوك الطير ولم يزل غادياً ورائحاً عنده بحيث كان أول داخل عليه وآخر خارج من عنده فاتفق أن جماعة من الطير اجتمعوا في جبل عال من الجبال فقال بعضهم لبعض :
إنا قد كثرنا وكثر الاختلاف بيننا ، ولابد لنا من ملك ينظر في أمورنا فتجتمع كلمتنا ويزول الاختلاف عنا .
فمر بهم ذلك العصفور فأشار عليهم بتمليك الطاووس وهو الملك الذي يتردد إليه فاختاروا الطاووس وجعلوه عليهم ملكاً فأحسن إليهم وجعل ذلك العصفور كاتبه ووزيره فكان تارة يترك الملازمة وينظر في الأمور ، ثم إن العصفور غاب يوماً عن الطاووس فقلق قلقاً عظيماً فبينما هو كذلك إذ دخل عليه العصفور فقال له :
ما الذي أخرك وأنت أقرب أتباعي إلي ؟
فقال العصفور :
رأيت أمراً واشتبه علي فتخوفت منه .
فقال له الطاووس :
ما الذي رأيت ؟
قال العصفور :
رأيت رجلاً معه شبكة قد نصبها عند وكري وثبت أوتادها وبذر في وسطها حباً وقعد بعيداً عنها فجلست انظر ما يفعل فبينما أنا كذلك إذا بكركي هو وزوجته قد ساقهما القضاء والقدر حتى سقطا في وسط الشبكة ، فصارا يصرخان فقام الصياد وأخذهما فأزعجني ذلك وهذا سبب غيابي عنك يا ملك الزمان وما بقيت أسكن هذا الوكر حذراً من الشبكة .
فقال له الطاووس :
لا ترحل من مكانك لأنه لا ينفع الحذر من القدر .
فامتثل لأمره ، وقال :
سأصبر ولا أرحل طاعة للملك .
ولم يزل العصفور محاذراً على نفسه وأخذ الطعام إلى الطاووس فأكل حتى اكتفى وتناول على الطعام ماء ثم ذهب العصفور .
فبينما هو في بعض الأيام شاخصاً إذا بعصفورين يقتتلان في الأرض فقال في نفسه :
كيف أكون وزير الملك وأرى العصافير تقتتل في جواري والله لأصلحن بينهما .
ثم ذهب إليهما ليصلح بينهما فقلب الصياد الشبكة على الجميع فوقع العصفور في وسطها فقام إليه الصياد وأخذه ودفعه إلى صاحبه وقال :
استوثق به فإنه سمين لم أر أحسن منه .
فقال العصفور في نفسه :
قد وقعت فيما كنت أخاف وما كان آمناً إلا الطاووس ولم ينفعني الحذر من القدر فلا مفر من القضاء للمحاذر وما أحسن قول الشاعر :
ما لا يكون فلا يكون بحيلـة ........ أبداً وما هو كائن سيكـون
سيكون ما هو كائن في وقته ........ وأخو الجهالة دائماً مغبون
فقال الملك شهريار :
يا شهرزاد زيديني من هذا الحديث .
فقالت شهرزاد :
الليلة القابلة أن أبقاني الملك أعزه الله .



وهنا أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح .


Powered by: vBulletin
 ©2000 - 2024, Enterprises Ltd.
المنتدى برعاية مميزون العرب للخدمات الرقمية
www.z777z.com
Adsense Management by Losha
( جميع مايكتب يعبر عن وجهة نظر كاتبه ولا يحمل وجهة نظر الموقع يعبر عن كاتبها فقط )
جميع الحقوق محفوظة زوجــي و زوجتــي عالم الحياة الزوجية
جميع الحقوق محفوظة زوجــي و زوجتــي عالم الحياة الزوجية